آخر تحديث :الخميس - 23 يناير 2025 - 09:24 م

كتابات واقلام


لحج في عهد السلطنة العبدلية .. تاريخ ونموذج حضاري

الخميس - 23 يناير 2025 - الساعة 05:17 م

د/ عارف محمد عباد السقاف
بقلم: د/ عارف محمد عباد السقاف - ارشيف الكاتب




في قلب جنوب الجزيرة العربية، وسط السهول الخصبة لوادي تبن، برزت السلطنة العبدلية كواحدة من أبرز الكيانات السياسية التي تركت بصمة في تاريخ المنطقة.
تأسست السلطنة بجهود آل عبدلي الذين نجحوا في بسط نفوذهم على لحج، مستفيدين من موقعها الاستراتيجي ومواردها الزراعية الغنية. خلال فترة حكمهم، تمكن السلاطين من جعل السلطنة مركزاً سياسياً واقتصادياً، وشكلت عدن جزءاً من نفوذهم قبل الاحتلال البريطاني، حيث كانت تحت إدارة سلطان لحج الذي حوّلها إلى ميناء تجاري حيوي بفضل سياساته الحكيمة.

موقف السلطنة من الاحتلال البريطاني:

في عام 1839، عندما احتلت بريطانيا عدن، وجدت السلطنة نفسها في مواجهة تحدٍ كبير حيث أظهر سلطان لحج رفضاً قاطعاً للاحتلال، وقاد جهود مقاومة بمساعدة قبائل العزيبة والعقارب، الذين تصدوا بشجاعة للقوات البريطانية رغم قلة الإمكانيات، لكن الفارق الكبير في القوة العسكرية حال دون نجاح المقاومة، مما دفع السلطنة إلى الدخول في اتفاقية حماية مع بريطانيا. بموجب هذه الاتفاقية، احتفظت السلطنة باستقلالها الداخلي مقابل تسهيل سيطرة البريطانيين على عدن. ورغم هذه التسوية، ظل السلطان وأبناء لحج ينظرون إلى الاحتلال البريطاني بعين الريبة والرفض.

قوة الحكم والعدالة في السلطنة:

كانت السلطنة العبدلية تُدار بحكم قائم على العدل، مما أكسبها احترام الشعب وثقته. أحد أبرز الأمثلة على عدالة القانون في السلطنة هو موقف السلطان فضل بن علي عندما استولى أحد المتنفذين على أراض زراعية تعود لفلاحين فقراء، أصدر السلطان قراراً حاسماً بإعادة الأراضي لأصحابها، وأكد أن "العدل أساس الملك، ومن لا يعدل لا مكان له في الحكم". هذا النهج في الإدارة جعل السلطنة نموذجاً يُحتذى به في تحقيق التوازن بين القوة والإنصاف.

الاقتصاد والزراعة في لحج:

اعتمد اقتصاد السلطنة على الزراعة بشكل أساسي، حيث كانت أراضي وادي تبن الخصبة تزرع بأنواع مختلفة من الحبوب والفواكه، خاصة المانجو, الجوافة، العاط، والليمون وانواع الخضار المختلفة. أصبحت لحج تُعرف بسلة غذاء الجنوب، وكان إنتاجها الزراعي يغطي احتياجات المنطقة ويُصدَّر إلى الأسواق المجاورة. كما كانت الزراعة تمثل جزءاً من الهوية الثقافية للحج، حيث عمل الفلاحون في الحقول بجد وتفانٍ، مستخدمين أنظمة ري مبتكرة مثل السدود والقنوات. هذا الارتباط الوثيق بالأرض جعل الزراعة رمزاً للفخر والعمل الجماعي في المجتمع اللحجي.

شهدت السلطنة العبدلية تطوراً كبيراً في الإدارة والتنظيم. في عام 1948، أصدرت السلطنة أول اعلان دستوري مكتوب في الجزيرة العربية، كان خطوة رائدة في ترسيخ مبادئ الحكم الرشيد. نظم الدستور العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ووضع أسساً للعدالة والمساواة، مما جعل السلطنة نموذجاً متقدماً مقارنة بالكيانات الأخرى في المنطقة.

أبرز الحكام والشخصيات المؤثرة:

برز العديد من الحكام في تاريخ السلطنة، من بينهم السلطان عبدالكريم فضل الذي واجه تحديات داخلية وخارجية بحكمة، والسلطان علي عبدالكريم الذي قاد السلطنة نحو التحديث في أواخر عهدها. إلى جانب الحكام، كان للشخصيات الإدارية دور بارز، مثل الشيخ محسن عبدالجليل الذي نظم شؤون القضاء والإدارة، والشيخ حسين بن عبدالقوي الذي أسهم في تطوير أنظمة الري والزراعة.

الأدب والشعر في لحج:

لحج لم تكن فقط مركزاً سياسياً واقتصادياً، بل كانت أيضاً منارة ثقافية. برز فيها الشاعر أحمد فضل القمندان، الذي خلّد التراث اللحجي بأشعاره و أغانيه، مثل أغنيته الشهيرة "يا زين ليه التقلاب". كانت أشعاره تعكس بساطة الحياة وروحها في لحج، مما جعله رمزاً أدبياً خالداً في تاريخ المنطقة.

لم تكن علاقة السلطنة مع القوى المحيطة سهلة. فقد حاولت الإمامة في الشمال توسيع نفوذها إلى أراضي لحج، إلا أن السلطنة العبدلية تصدت لهذه المحاولات بشجاعة. بمساعدة القبائل المحلية، تمكنت السلطنة من الدفاع عن أراضيها والحفاظ على استقلالها رغم التحديات المستمرة.

الحياة الاجتماعية والبساطة والفكاهة:

كان المجتمع اللحجي يتميز بالبساطة وروح الفكاهة، التي كانت جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية. في الأسواق والحقول، كان المزاح وسيلة لتخفيف أعباء الحياة وتعزيز الروابط الاجتماعية. ومن المقولات التي تعبر عن هذه الروح: "الزراعة أمان، والتاجر ضيف الزمان"، و"لحج أرض الخير، والعدل فيها مصير". هذه الأقوال تعكس قيم العمل والتعاون التي ميزت أهل لحج.
ما يميز السلطنة العبدلية هو قدرتها على تحقيق التوازن بين العدالة والقوة، وبين التقاليد والتحديث. إعلان أول دستور مكتوب، وتطوير أنظمة الزراعة، وتعزيز دور القانون، كلها منجزات جعلت لحج رمزاً للعطاء والتاريخ العريق. ورغم زوال السلطنة، إلا أن إرثها الثقافي والإداري ما زال حياً في ذاكرة أهل لحج، شاهداً على فترة ازدهار شكلت ملامح الجنوب العربي.